1 / 49

تاريخ الدعوة

تاريخ الدعوة. IHIS2074. بداية الشرك في بني آدم.

Télécharger la présentation

تاريخ الدعوة

An Image/Link below is provided (as is) to download presentation Download Policy: Content on the Website is provided to you AS IS for your information and personal use and may not be sold / licensed / shared on other websites without getting consent from its author. Content is provided to you AS IS for your information and personal use only. Download presentation by click this link. While downloading, if for some reason you are not able to download a presentation, the publisher may have deleted the file from their server. During download, if you can't get a presentation, the file might be deleted by the publisher.

E N D

Presentation Transcript


  1. تاريخ الدعوة IHIS2074

  2. بداية الشرك في بني آدم • طال الزمن بعد آدم واستمر الناس على الحق والتوحيد لقرون طويلة، وبعدها جدّ في أمر البشرية ما لم يكن في حُسبان أحد؛ أن يخرج الناس عن عبادة الله وحده إلى عبادة الأصنام!! هذا هو الحدث الجلَل الذي وقع على وجه الأرض لأول مرة، فما كان على وجه الأرض أحدٌ يشرك بالله تعالى، واستمر الناس على التوحيد بعد آدم -عليه السلام- لعشرة قرون متتالية كما جاء ذلك في صحيح البخاري (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام).

  3. عبد الناس أصنامًا عرفت بأسماء؛ فمنها ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، يروي البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن هذه أسماء رجال صالحين كانوا بين أدم ونوح -عليهما السلام- وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم ويسقون المطر بهم، فعبدوهم".

  4. وقال ابن عباس أيضًا: "صارت الأوثان في قوم نوح في العرب بعدُ, أما ودّ كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجُرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحِميَر لآل ذي الكلاع- أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كان يجلسون أنصابًا وسمَّوها بأسمائهم، ففعلوا- فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسّخ العلم عُبدت".

  5. قال ابن جرير: كانوا قومًا صالحين -أي يغوث ويعوق- بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال لهم أصحابهم الذي كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم؛ فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسقون المطر؛ فعبدوهم!!

  6. عم عندئذ البلاء وانتشر الفساد وعكف الناس على عبادة الأصنام من دون الله -عز وجل- فكان أولَ رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض هو نوح -عليه السلام- كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي حيَّان عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وفيه: (فيأتون نوحًا فيقولون -أي الخلائق- يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسمَّاك الله عبدًا شكورًا، أما ترى ما نحن فيه! ألا ترى ما بلغنا! ألا تشفع لنا إلى ربك) وهذا يعني أن نوحًا -عليه السلام- هو أول الرسل، ويعني أنه قد سبقه آدم وإدريس وأنهما كانا من الأنبياء وأما نوح فأول المرسلين، ذكر الله -عز وجل- قصة نوح -عليه السلام- في ثلاثة وأربعين موضعًا من كتاب الله الكريم وذُكرت قصته مفصلة في سورة الأعراف وهود والمؤمنون والشعراء والقمر ونوح.

  7. إذا أردنا أن نؤرِّخ لبداية الشرك في بني آدم فلا بد أن نتوقف وأن نتمهل كثيرًا عند تعظيم الرجال وعند تعظيم الصالحين بعد موتهم لنقول: إن الغلو في تعظيم الرجال كان السبب الذي أنشأ الشرك في بني آدم، ومع هذا كان اتباع خطوات الشيطان، وقد قال جل من قائل: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة: من الآية: 168، 169).

  8. إن عبادة الشيطان هي إتباع أمره؛ قال جلا وعلا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس: من الآية60-62( إن الشيطان يدعو الإنسان شيئًا فشيئًا ليكون من أصحاب السعير كما قال جل من قائل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر: 6(،

  9. وهكذا سول الشيطان لبعض هؤلاء أن يجعل للصالحين أصنامًا، لا لتُعبد وإنما لتذكر! لتذكر بالعبادة!! ثم لمّا عمّ الجهل ومات العلماء أصبحت أوامر الشيطان نافذة، وصارت أقواله مسموعة، ومن هنا عُبدت هذه الأصنام بين هؤلاء الأخلاف، الذين خلفوا ولم يكونوا على علم، ومن أجل هذا كانت أول آية تتنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- هي قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: من الآية: 1-5(.

  10. لم يطلب الشيطان من قوم نوح عبادة غير الله -عز وجل- دفعة واحدة، ولو فعل ذلك لما استجاب له أحد، ولكنه تدرج معهم حتى وصل إلى ما يريد، وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وما زال الشيطانُ يُوحي إلى عُبّاد القبور، ويُلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مُستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها، فإن شأن الله أعظم من أن يُقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه! فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله واتخاذ قبره وثنًا تُعلّق عليه القناديل والسُّتُور ويطاف به ويُستَلم ويُقبّل ويُحجّ إليه ويُذبح عنده، فإذا تقرر ذلك نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدًا ومنسكًا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم،

  11. وكل هذا مما قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضادٌ لما بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- من تجريد التوحيد وألا يُعبد إلا الله، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى من نهى عن ذلك فقد تنقَّص أهل هذه الرُّتب العالية وحطَّهم عن منزلتهم وزعم أن لا حرمة لهم ولا قدر! فيغضب المشركون وتشمئز قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: 45) وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطَّغام وكثير ممن ينتسبون إلى العلم والدين؛ حتى عادَوا أهلَ التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظَّموهم وزعموا أنهم أولياء لله وأنصار دينه ورسوله!! ويأبى الله ذلك، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ}.

  12. ولا شك أن الله -عز وجل- حين بعث نوحًا -عليه السلام- بإقامة التوحيد وتجديد صُروحه يُذكِّر المسلمين في كل عصرٍ وفي كل زمان ومكان بالنهي عن التصوير، واتخاذ هذه الصورة التي كانت ذريعة للشرك بالله، وينبِّه كثيرًا ممن دخلوا في الإسلام لكنهم وقعوا في صورٍ وألوان متنوعة من ألوان التقديس والتعظيم للقبور والأضرحة، تخرج بهم عن صحيح الدين والعياذ بالله! ولهذا رأينا قبابًا تنتشر! ومزارات تكثر! وأضرحة تشيد في بلاد المسلمين! يحج إليها الناس! يطوفون حولها! وربما نحروا ودعوا واستشفعوا عندها! يطلبون من أصحاب القبور أمورًا لا تُطلب إلا من الله وحده! حتى أن الشاعر المعروف حافظ إبراهيم يذكر هذه الصور ويسخر منها فيقول:

  13. أحياؤنا لا يرزقون بدرهمٍ • وبألف ألف يرزق الأموات • ويقال هذا القطب باب المصطفى • ووسيلة تُقضى به الحاجات • وأنا أعذب في الحياة وليس لي • يا أم دَفر ما به أقتات

  14. وقد ثبت في جملة من الأحاديث الصحيحة؛ ثبت النهي عن التصوير بأشكاله وألوانه وصوره، فهذا ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (من صوّر صورة في الدنيا كُلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)، وعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إلا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا تدع تمثالًا إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته".

  15. يقول النووي -رحمه الله- بعد أن ذكر تحريم الصور: ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له، وهذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم، وقال بعض السلف: إنما يُنهى عن ما كان له ظل ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل وهو مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الصورة فيه لا يشكُّ أحد أنه مذموم وليس لصورته ظل، مع ما في هذه الأحاديث المطلقة  في كل صورة.

  16. والحديث الذي ذكره هو حديث عائشة -رضي الله عنها- إنها قالت: (دخل عليّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه وتلون وجه وقال: يا عائشة، أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله تعالى. قالت عائشة: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين).

  17. دعوة نوح عليه السلام • إن نوحًا -عليه السلام- هو أبو البشرية الثاني، هو أول الرسل بعد آدم -عليه الصلاة والسلام- اصطفاه الله تعالى للنبوة وهداه للحق وبالحق وكلفه بالرسالة وأثنى عليه بما هو أهله، دعا نوح -عليه السلام- جميع  من على ظهر الأرض في زمانه، ومن هنا كانت دعوته عامة بسبب ما أُحيط بها من أحداث، فلما أغرق الله -عز وجل- المكذبين بالطوفان كان نوحٌ -عليه السلام- يدعو من بقي من أهل الأرض، فهو عليه الصلاة والسلام من أولي العزم من الرسل، بل هو أولهم.

  18. وتعد دعوته مرتكزًا رئيسيًّا للعلماء والدعاة ولكافة العاملين في مجال الدعوة إلى الله؛ لما فيها من الدروس والعِبَر، ويكفينا أن الله -عز وجل- اختص هذه الدعوة بسورة كاملة بيانًا لأهميتها، فكانت دعوة نوح تقوم على الدعوة إلى وحدانية الله وعدم الإشراك به، ألا يعبدوا معه صنمًا ولا تمثالًا ولا طاغوتًا ولا صالحًا، قال جل من قائل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأعراف: 59)، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} (المؤمنون: 23)

  19. دعوة نوح عليه السلام: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وهي دعوة جميع أنبياء الله تعالى، ومع هذا كان نوح -عليه السلام- حريصًا على نجاة قومه من الهلاك، لا يرجو لهم إلا الخير ولا ينتظر منهم مكافأة أو أجرًا؛ ولذا تلطَّف في خطابهم وسلك في دعوتهم كل سبيل، والله -عز وجل- سطر ذلك فقال يدلل على شفقته وكمال محبته: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وفي آية أخرى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} (هود: من الآية: 26).

  20. ونوح -عليه السلام- يضع الأمور في نصابها فيقول: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (هود: 31) ويُذَكِّر نوحٌ قومه بأنه الرجل المعروف بينهم بالأمانة والصدق، وأنه لا يطلب منهم أجرًا أو مالًا ولا ينتظر مكافأة أو ثوابًا إلا من الله تعالى وحده، قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس: 72) {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} (هود: 29) نعم، هذه حالة نوح بين قومه؛ لا يسألهم الأجر على الدعوة، وكذا كل صادق من الدعاة {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (الشعراء: 105-107)

  21. وأحيانًا كان نوح -عليه السلام- يلفت أنظارهم إلى آيات الله في الأنفس والآفاق، يُعدد آلاء الله على عباده لعلهم يهتدون إلى وحدانية الله وينتهون عن عبادة ما لا يضر ولا ينفع، قال جل من قائل: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} (نوح:13-20).

  22. هذا تنويعٌ وتلوين في الخطاب، وهو أيضًا ينوع ويلون في الأساليب وفي الوسائل؛ فكان لا ييأس ولا يقنط من رحمة الله، يصل دعوته الليل بالنهار، والسر مع الإعلان، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} (نوح: من الآية: 5-9).

  23. ألف سنة إلا خمسين عامًا قضاها نوح -عليه السلام- في دعوته إلى الله دون كلل ولا ملل، وكلما أعرض قومه غيَّر وبدّل في أسلوبه، وهذا يعني أنه كان يحاسب نفسه، ومع هذا كان قمة في الصبر وآية في الحلم وطريقًا قاصدًا في الجِد والمثابرة وطودًا شامخًا في التواضع وإنكار الذات، هل يتعظ بذلك الدعاة الذين ربما استولى اليأس على نفوسهم عند أول ردٍّ سلبي يتلقونه من أقوامهم أو يسيئون الظن بأقوامهم، فيتسرعون في إصدار الأحكام الظالمة عليهم وينهزمون أمام أية صدمة يتعرضون لها

  24. موقف الملأ من دعوة نوح -عليه السلام- • الملأ هم بطانة الحكام الظالمين، وهم أعوانهم، وهم أصحاب المصالح، وهم الأغنياء المترفون، وهم المنافقون، وهم زعماء المناطق والقبائل من غير المؤمنين. من سنن الله الثابتة في خلقة أن يكون هؤلاء جميعًا في طليعة من يتصدى لأنبياء الله؛ لأن نفوسهم قد امتلأت بحب المال والجاه، وقلوبهم قد أشربت كره كل من يدعو إلى دين الله، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (سبأ: الآية: 34) نعم، شنَّ الملأ حربًا شعواء على نوح -عليه السلام- وأدبروا يسعون في الأرض فسادًا،

  25. يستخدمون كل وسيلة وكل دعاية في مواجهة أول رسل الله -عز وجل- إلى الأرض، فماذا كان موقفهم؟ دعاهم نوح إلى الإسلام، إلى لا إله إلا الله، فقالوا يتعللون برد هذه الدعوة بعلل واهية: {فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود: الآية: 27) أراذلنا أي أقلنا منزلة وأخسنا قدرًا وأدنانا مكانة يعنون بهم ما دون بهم من دون طبقة الأشراف والأكابر؛ يعنون الزراع والصناع والعمال.

  26. {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ} أي: أتبعوك في بادي الرأي، أي في ظاهره الذي يبدو للناظر فيه قبل أن يتأمل ويتمعَّن ويتأنى، وفي الآية الأخرى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: من الآية: 111-114) ما زال لهذه الطبقية الشاذة الهمجية جذور راسخة في عصرنا الذي يُسمَّى بعصر التقدم والمدنية، هذه المقاييس مقاييس همجية جاهلية لا تمُتّ للمساواة ولا للعدل بأية صلة إن المقياس الثابت الذي لا يتزعزع هو قول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:الآية: 13).

  27. ولذا رفع نوح -عليه السلام- شأن أصحابه ولو كانوا شُعثًا غُبرًا لا يملكون مالًا أو جاهًا فقال للملأ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: الآية: 114) فيكفيهم أنهم آمنوا فذلك أعظم نسبٍ وأكرم شرفٍ، فيجب أن يكون المقياس عند كل الدعاة وعند كل المجتمعات هو هذا المقياس {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ثم إن الملأ تناسوا مكانة نوح -عليه السلام- في قومه قبل الرسالة مع أنه كان صادقًا أمينًا لا يجرؤ أحد أن يطعن في عدالته واستقامته، فلما أكرمه الله بالرسالة تارة نسبوه إلى الضلالة، وتارة نسبوه إلى الكذب، وتارة نسبوه إلى الجنون، وفي هذا يقول الله: {قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الأعراف: الآية: 60) فهذه تهمة بالضلالة، وتارة أخرى يتهمونه بالكذب {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} (الأعراف: الآية: 64

  28. وفي غير هذه وتلك يقولون: إنه لمجنون {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} (المؤمنون: 25) هكذا تنقلب الموازين وتذبذب القيم، وكل إناء ينضح بما فيه. • إن هؤلاء الملأ غاية ما يتطلعون إليه أن يكونوا سادة الناس، وأن يكونوا أهل الحل والعقد في الخلق، ومن أجل ذلك هم يتحاربون ويتنافسون ويحسبون أن غاية ما في هذه الحياة جمع مال أو تبوء منصب ونحو ذلك؛ ولهذا فهم لا يتصورون معاني إنكار الذات ولا يتصورون معنى الانقياد التام لله، ومن هنا جاء اتهامهم لنوح -عليه السلام- بحب الزعامة، يظنون إنه إنما جاء بما جاء به يُريد الزعامة؛ لذا سطر القرآن الكريم في هذه القضية

  29. فقال قول الله تعالى: {فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود: الآية: 27) وقال تعالى: {فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} (المؤمنون: الآية: 24) وفي قولهم {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} (هود: الآية: 27). فالفضل عند الملأ يعني القوة والمادة وكثرة الرجال، وهذه الصفات تتوفر عندهم وليست عند نوح ومن آمن معه، وفي قولهم: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود: الآية: 27) أي: ليس هناك من رسالة ولا رسول، بل هي مؤامرة طبقية تستهدف الإطاحة بالسادة والإشراف وتسليم شئون الحكم إلى العبيد والمنبوذين.

  30. ومن مواقف الملأ أنهم تمسكوا في ردهم على نوح -عليه السلام- بأنه خرج على المألوف من العادات، وخالف نهج الآباء والأجداد، وجاءهم بما لا يعرفوا فهم له منكرون، وفي هذا يقول الله: {فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: الآية:24) الشاهد في هذه الآية هي قولهم: {ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} وهذا يعني أن الحق هو ما يأتيهم عن طريق الآباء، وما يأتي عن غير طريق الآباء فضلالٌ وانحراف

  31. ومع كل الجهد الذي بذله نوح معهم تمسكوا بضلالهم واستمروا في عبادة أصنامهم وطلبوا منه أن يترك دعوتهم، فكان من آخر ما قالوا: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (هود: الآية: 32) تصوروا إن دعوة نوح لهم من الجدال لا يقصد بها الحق ولا الصواب، وطلبوا منه التوقف عنها لكثرتها ولعدم جدواها، وتحدوه بأن يأتي لهم بما خوفهم به ظنًا منهم أنه كاذب، ولم يكتفوا بسب نوح وأتباعه ولم يكتفوا بالسخرية منهم بل كانوا يضربون نوحًا حتى يسقط على الأرض جريحًا ثم يرمونه في بيت خرب، يظنون أنه قد مات فإذا به يلقاهم في اليوم التالي يدعوهم إلى الله تعالى.

  32. شكا نوحٌ -عليه السلام- حال قومه لربه فعرَّفه سبحانه وتعالى بأنه لن يؤمن منهم أحدٌ بعد ذلك، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (هود: الآية: 36) يعجبُ العاقل حين يعلم عدد الذين آمنوا بالله فصدقوا نوحًا في دعوته خلال هذه المدة التي بقي يدعو فيها إلى الله، كم هذه المدة؟ قال جل وعز: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} (العنكبوت: الآية: 14) اختلفت الأقوال في عدد المؤمنين، فالمُكثِر يصل بالعدد إلى ثمانين والمُقِل يصل بالعدد إلى سبعة فقط، وقد أشار الله إلى قِلة عدد المؤمنين فقال سبحانه: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} (هود: 40) لما علم نوحٌ أنه لن يؤمن من قومه إلا قد آمن دعا ربه أن يُهلِك الكافرين، فلا خير فيهم ولا في خير في أرض يبقى فيها هؤلاء، قال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح: الآية: 26- 27)

  33. علل -عليه السلام- طلب إهلاكهم بأنهم يعملون على إضلال العباد ونشر الفساد وأن كفرهم وعتوَّهم ينتقل بالوراثة إلى بنيهم، فلا يلدوا إلا فاجرًا كفَّارا، عندها أمر الله -عز وجل- نوحًا أن يصنع سفينة، فأخذ في صناعتها وترك دعوة القوم فكان الناس يمرون عليه يستهزئون به ويقولون: هذا الذي كان يزعم أنه نبي صار نجارًا !! ينادونه بصنعته الجديدة، يتعجبون منه وهو يصنع السفينة على اليابسة، وهو لا يأبه باستهزائهم، ولا يبالي بتعجبهم، يستمر في طاعة الله تعالى.

  34. يقول عكرمة والزهري: التنور وجه الأرض، وذلك أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء قد فار على وجه الأرض فاعلم أن مصير الكفار قد اقترب، وافعل ما تُؤمر به فتنجو ومن آمن معك، وهذا قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (هود: 40، 41)

  35. أمر الله تعالى السماء بأن تمطر وأمر الأرض بأن تتفجر عيونًا؛ فنفذ ما أمر الله به. قال تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} (القمر: الآية: 11- 12). وامتلأت الأرض بالماء وعلا الطوفان حتى أشبه الأمواج في حجم الجبال، يقول تعالى {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} وعامت السفينة برِكَابها ورُكَّابها محوطة بعناية الله عز وجل قال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} (القمر: الآية: 14). وهلك الكفار بالغرق ونجا نوح -عليه السلام- ومن كان معه في السفينة، قال تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنبياء: الآية: 77)، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود: الآية: 44)، بعد أن عامت السفينة مدة طويلة قيل: إنها ستة أشهر وكان أمر الله -عز وجل- أن تبقى على هذا النحو، حتى صدر الأمر الإلهي {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وهكذا كانت عاقبة الضالين.

  36. أما نوح -عليه السلام- ومن معه فقد نجاهم الله تعالى ومن معه فقال:{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (العنكبوت: الآية: 15) وصدق وعد الله تعالى لنبيه نوح وكذا يُصدق عباد الله المرسلون

  37. معالم من دعوة نوح -عليه السلام-

  38. المعلم الأول: العقيدة أساس الدعوة • قامت دعوة نوح -عليه السلام- على دعوة الناس إلى توحيد الله -عز وجل- وقصر العبادة له، وقد مر معنا ذلك، ونحن هنا نؤكد على هذه القضية، فكلمة التوحيد أولًا، نوح -عليه السلام- استعمل كل وسيلة وأكد على هذه الحقيقية وبرهن عليها بكل سبيل {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (نوح:3)، وفي هذا يقول بعض المفسرين: وعبادة الله وحده منهج كامل يشمل تصور الإنسان لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، وتقوى الله هي الضمانة الحقيقية للاستقامة على هذا المنهج، وعدم التلفت إلى غيره بلا رياء ولا تظاهر ولا مماراة، وطاعة الرسول هي الوسيلة للاستقامة على المنهج وتلقي الهدى من مصدره، واستمرار هذا الاتصال ما دامت الرسالة موجودة؛

  39. ولهذا قال نوح عليه السلام: {وَأَطِيعُونِ} لأنه رسول الله إليهم، وبلاغه هو دين الله تعالى، ونوح -عليه السلام- يركِّز على الإيمان باليوم الآخر، لماذا؟ لأنه جزء من العقيدة، عرفهم به نوح وهو ينذرهم به قال تعالى: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26]، وقد اجتهد نوح -عليه السلام- في إفهامهم أركان العقيدة وأسمعهم براهينها وناقشهم، فاتهموه بالكذب وردوا عليه، وزعموا أن الرسالة لا تكون لبشر، فقالوا: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 27] {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [ المؤمنون: 24] ونحو هذا. وقالوا: إن جازت الرسالة لبشر فيجب أن يكون من عِلية القوم ومن الوجهاء، وألا يكون من الضعفاء؛

  40. ولهذا قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ} [هود: 27] رد نوح -عليه السلام- مزاعمهم وبيّن لهم أن النبوة رحمة من الله يصطفي لها من يشاء من عباده، ليس لهم أن يناقشوا شخص الرسول وعليهم أن ينظروا في معجزاته وبيناته؛ ليعرفوا صدقه في دعوته وليسألوا أنفسهم عن غاية الرسول من كذبه على الله، وهو لا يطلب منهم أجرًا ولا يريد منهم رزقًا، والمؤمنون معه من الفقراء الذين لا جاه لهم لينتفع به، أو لا مال لهم ليستولي عليه، فلماذا يكذب على الله تعالى؟ ومع هذا لن يستمع الملأ لدعوه نوح، فمضت فيهم سنة الله -عز وجل- بالاستبدال.

  41. المعلم الثاني من معالم دعوة نوح عليه السلام: أن نوحًا كان في الذروة من صفات الدعاة • كيف ذلك؟ كان نوح عالم بشئون الدعوة وحال المدعوين فهو يدعو الله -عز وجل- على بصيرة من أمره، كان حليمًا واسع الصدر، محبًّا لقومه، لا يعرف الحقد سبيلًا إلى نفسه، ولا يأبه من استخفاف النفاس به، ولا يقيم للأهواء والأمزجة وزنًا، لقد كان مؤمنًا بالله منقادًا لأمره، كان يعيش لدعوته، فمن أجلها يصل الليل بالنهار والسر بالإعلان، لا يتقاضى على ذلك أجرًا ولا ينتظر مغنمًا ولا يطمع في جاه، وكان المؤمنون بدعوته هم أهله وعشيرته وحزبه وقومه ولو كانوا لا يرتبطون معه بنسب ولا تجمعهم به مصالح من مصالح الدنيا،

  42. أما الكفار فكانوا أبعد الناس عنه، الكافرون بدعوته هم الغرباء ولو كانوا من أهله ولو كانوا من أقرب الناس إليه نسبًا، كانت عداوته للمشركين تتناسب مع طول صبره عليهم، وتتناسب مع شدة اضطهادهم له، ولذا دعا ربه: ألا يذرَ على الأرض منهم ديّارًا،  فعلى الدعاة إلى الله أن يتأسوا بنوح -عليه السلام- في علمه وصبره وتجرده، وليعلموا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

  43. المعلم الثالث: استفراغ الوسع وبذل الجهد في الدعوة إلى الله تعالى • إن نوحًا -عليه السلام- سار على خُطة واضحة تقوم على أن يبذل كل وسع، وأن يستفرغ كل جهد، وأن يُعطي من نفسه المجهود في سبيل الدعوة إلى الله -عز وجل- عاش نوح -عليه السلام- واقع قومه وهو يدعوهم، ولعل ذلك أجلى في الشرح، وأدعى للفهم والإقناع. قوم نوح كانوا أصحاب زراعة ورعي وتجارة، يحتاجون للمطر للسُقْيَا وللأنهار لتُروى زروعهم، وللسماء لتظلهم، وللشمس لتدفئهم، وللقمر ليُنير لهم، وهو يقطعون سبل الأرض وفجاج الصحراء، معهم الأموال ومعهم الأولاد، تلك حياتهم وهذا واقعهم، فماذا قال نوح لهم؟

  44. قال عليه السلام وهو يدعوهم: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 10-20].

  45. ويستمر نوح في الدعوة ويُلح في طلب الإيمان؛ ذلك لأن هذا من ضرورات الدعوة إلى الله، غاية الدعوة أن يوجد إنسان جديد ينخلع من حياته وضلاله القديم؛ ليعود إلى عبادة الله، ينطوي باطنه على قبس من نور الله، وتمتلئ جوارحه بالتقوى والطاعة والاستقامة على منهج الله، هذا لا يحتاج إلى مجرد العرض، ولا يكفيه الطلب لمرة واحدة، بل لا بد من إلحاح ومتابعة، لا بد من تربية جادة ومداومة، لا بد من استمرار ومتابعة، طبق نوح هذا تطبيقًا كاملًا، حتى قال الله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: 5]، ثم إن هذه الدعوة الإلهية تتصادم مع قوى عديدة؛ تتصادم مع الملأ ومع الوجهاء الذين يعيشون على استعباد الضعفاء واستغلالهم، تتصادم مع كل متألِّه من الناس سواء كان تألهه بالتحليل والتحريم، وهو يشرع بعقله للناس أو يحب أن يرفعه الناس إلى درجة الأُلوهية يخافونه ويرجونه ويعظمونه، كما تتصادم مع كل ضال يعبد غير الله؛ سواء كان معبودة حسيًّا أو كان معبوده معنويًّا.

  46. هذه الصدامات تؤدي إلى مشاق ومصاعب في طريق الدعوة، مشاق ومصاعب كثيرة لقيها نوح -عليه السلام- ولا بد من ملازمته للتحمُّل، ومن مواجهته هذه المواقف بالصبر ومقابلته السيئة بالحسنى، وهذا منهج لا بد منه لنجاح الدعوة إلى الله، كانوا يكذِّبونه، كانوا يسبونه، كانوا يسخرون منه، كانوا يرمونه بالجنون تارة وبالسفه تارة، يضربونه تارة ويؤذونه تارة، وهو متذرِّع بالصبر مُستفرغ جهده، وباذل وسعه في طريق الصبر على دعوته، وبهذا تنجح الدعوات، وبهذا يمكَّن للدعوات.

  47. ومن المعالم أيضًا أن نوحًا -عليه السلام- كان شديد الصلة بالله، كثير الالتجاء إليه، فليُراجع من شاء في هذه القصة العظيمة بدايتها، حين قال نوح: {قَالَ نُوحٌ رَبِّي} وقد سماه الله -عز وجل- عبدًا شكورًا، فمن الله وحده كان نوح -عليه السلام- ينشد النصر، وما كان وهو يواصل الليل مع النهار يُعلِّق آمالاً على أحلاف يعقِدها مع مشركين ضد مشركين، ولا كان مغرورًا بقوته أو قوة أتباعه المادية، ومن الأدلة على قوة إيمانه بالغيب أنه كان يردُّ الرد القاطع على سخرية قومه حين كانوا يسخرون منه وهو يصنع السفينة: بأنه سيسخر منهم غدًا يوم ينصره الله -عز وجل- وتأمل: السفينة وهي تجري في موج كالجبال، تجري بحفظ الله وحراسته وتقديره:

  48. وإذا العناية لاحظتك عيونها • نم فالمخاوف كلهن أمان

  49. وفي مواضع كثيرة بيَّن الله لنا: كيف استجاب لعبده نوح، كما قال جل من قائل: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ}(الأنبياء: 76)، وقال: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات: 75 • ونحن اليوم عندما نوثق صلتنا بالله ونكثر من الالتجاء إليه ننتظر النصر والتمكين منه وحده، فهو الناصر لعباده المؤمنين، وهو سبحانه وتعالى المستعان وعليه التُّكلان، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

More Related